الحمد لله الذي جعل لنا قدوة وأسوة حسنة، وسن لنا أحسن السنن، وبين لنا طريق السلامة من الفتن فجعلنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وصلى الله على قدوة الخلق أجمعين وعلى آله وصحبه أجمعين..
القدوة هي اسم من الاقتداء، وكلاهما مأخوذ من مادة - قدو - التي تدل على الاهتداء بالشيء والتأسي به، وقال الشنقيطي في أضواء البيان: الأسود كالقدوة، وهي اتباع الآخرين على الحالة التي يكون عليها حسنة أو قبيحة.
إذاً القدوة الحسنة هو: ذلك الشخص الذي اجتمعت لديه الصفات الحسنة كلها، لكن هذا لا يمنع من القول إن فلاناً قدوة في صفة معينة ويكون ممن ينقص حظه في أمور أخرى، والموفق من ضرب من كل خير بسهم فيكون له باع في كل فضيلة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وبضد ذلك القدوة السيئة التي تزين للناس الباطل ويتخذ مثلاً وأشهر القدوات السيئة الشيطان، ولا يخلو كتاب في التربية من إيراد القدوة كإحدى الوسائل المهمة لفاعليتها، ففي دراسة أجريت على 446 شاباً و94 فتاةً تبين أن 75% يرون أن وجود القدوة مهم جداً، وهي من أكثر الوسائل تأثيراً، وهذا لاشك يعود إلى رؤية الناس للنموذج الواقعي الذي يشاهدونه، وبدون هذا التطبيق الواقعي تكون التوجيهات كتابة على الماء لا أثر لها في قلوب المتلقين وعقولهم.
ولعظم أهميتها ورد الحث على الاقتداء بالأنبياء عليهم السلام في كل الأمور ولذلك قال الله عز وجل: { اُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } [الأنعام:90].
مقومات القدوة
1- الإخلاص، وهو من أعظم المطالب، فيفعل الأمر ويترك النهي مع تمام الخضوع لله والتسليم له.
2- الاستقامة: على الإيمان والعمل الصالح؛ إذ إن هناك الكثير من الصالحين، ولكن قليل من يستقيم على ذلك ويتمسك به في كل أحيانه وظروفه، وفي كل زمان ومكان، فلا يتغير ولا يتلون ولا يحابي، فللقدوة في نفسه شغل بين إقامتها ومجاهدتها وسياستها.
3- حسن الخلق: إذا كانت الاستقامة والصلاح يتوجهان إلى ذات المقتدى به ليكون صالحاً في نفسه قويماً في علاقته مع ربه؛ فإن حسن الخلق يتوجه إلى علاقته بالناس وأصول تعامله معهم، ويجمل ذلك المنهج الدعوة النبوية في قوله صلى الله عليه وسلم : << وخالق الناس بخلق حسن >>.
صفات القدوة الصالحة
اقتران القول والعمل: فالقدوة الصالحة تقول خيراً وتعمل خيراً، فلا تجد تناقضاً بين منطقها وسلوكها ويقول عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } [الصف: 2-3]} .
حيازة مؤهلات وصفات مؤثرة
فلكي يكون شخص قدوة لغيره لابد أن يمتاز عليه بسمة أو سمات عديدة يفتقدها المقتدى أو بعضها، فيسعى للسير على منوال القدوة من أجل اكتساب مثل ما لديه من مؤهلات وصفات حميدة، وكلما كانت القدوة حائزة على مؤهلات أكبر، كانت قوة الدفع أكبر؛ ولذا ينصح الشبان والفتيات بعدم حصر قدواتهم في النماذج المحدودة وإنما الانطلاق نحو القمم.
الثبات على المبادىء
القدوة الصالحة ليست قدوة موسمية تؤثر لبعض الوقت أو في أماكن محددة، إنما هي ذات تأثير وجاذبية أينما حلت وارتحلت: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم: 31] فالثبات يعطي الانطباع عن الصدق والصبر والتحدي والإيمان العميق بالمبادئ التي يحملها القدوة، بعكس التذبذب أو التردد أو التراجع أو التساقط.
إن الإنسان الشاب أو الفتاة قد ينهار أحدهما تحت الضغوطات لكنه إذا تذكر الثابتين الصامدين، المقاومين في عناد، خجل من نفسه واتكأ على جراحه، وواصل السير.
العمل على السجية وعدم التكلف
كلما كانت القدوة تتصرف بوحي من ثقتها بنفسها وإيمانها، وعلى سجيتها دونما تصنع ولا تكلف ولا تمثيل؛ كلما شد ذلك الأنظار إليها فالقول الحسن لدى القدوة يطفح كما الماء من الينبوع بعفوية وتلقائية، والفعل الحسن يصدر عنها كما يصدر الشعاع عن الشمس والعطر من الوردة ذاتها.
إن الوردة لو أرادت أن تتعطر غير عطرها فلربما فاح ذلك العطر مؤقتاً لكنه لا يمثل أنفاس الوردة العاطرة، وإنما هو شيء طارئ ودخيل عليها، وكذلك القدوة ففعلها وقولها ليس طارئاً وإنما هومن شمائلها.
وقد ثبت تربوياً أن -التربية غير المباشرة- العملية، أكثر تأثيراً من -التربية غير المباشرة- القولية.
آمرة مؤتمرة.. ناهية منتهية
وهذا هو التطابق بين الإيمان وبين العمل، فحتى تؤتي القدوة أكلها، لابد أن تعمل بما تأمر به، حتى إذا رأى المؤتمرون فعلها بما تأمر صدقوها وأخذوا بأوامرها، كما لابد أن تنتهي عما تنهي عنه من شر أو منكر أو سوء أو خبث أو بذاءة، فإذا لم يلاحظ المنتهون ذلك، أو رأوا عكسه وخلافه، عابوها وانتقصوا من قدرها وسخروا منها.
تعترف بالخطأ وتسعى لتصحيحه
القدوة قدوتان: قدوة معصومة لا يتطرق الخطأ إلى أقوالها وأفعالها، كما هم كالأنبياء -عليهم السلام-، وهناك قدوة غير معصومة، قد يصدر عنها الخطأ لكنها تسارع إلى معالجته وتفاديه والاعتراف به وعدم الإصرار عليه أو تكراره مستقبلاً، وبذلك تكون قدوة حتى في صراحتها وشفافيتها، وفي سعيها إلى تصحيح ما تقع به من أخطاء.
إن المتقين، وهم قدوات صالحة، يقعون في الخطأ أحياناً لكن ميزتهم عن سواهم، أن سواهم تأخذه العزة بالإثم فيكابر ويحاور ويناور لئلا يقال عنه أنه أخطأ، فيما يؤوب المتقي إلى ربه ويثوب سريعاً إلى رشده {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ }.
مثال للقدوة الحسنة
لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ{ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [سورة التوبة].
إن المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ليجد أنها حوت جميع مكارم الأخلاق التي تواطأ عليها فضلاء ونجباء البشر ونبلاؤهم، حتى إنها لتجيب على كل ما يختلج في الفؤاد من أسئلة قد تبدو محيرة لمن لم يذق طعم الإيمان بالله تعالى من الذين كفروا، والغريب في الأمر أن بعض بني قومنا من المسلمين هداهم الله لا يحفلون بهذه الميزة العظيمة التي ميزنا الله بها وهي كون النبي صلى الله عليه وسلم قدوة وأسوة حسنة رغم أنها تمثل الرادع الفعلي عن ارتكاب ما يخل بخلق المسلم، وهي المحرك الأساسي إلى الارتقاء بالذات إلى معالي الأمور وقممها السامقات.
إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم قرآن يمشي على الأرض، وكان خلقه القرآن، ولذلك تجد كثيراً من عامة المسلمين اليوم إذا سألتهم ولو كان ذلك بطريقة عشوائية عن: من قدوتك أو مثلك الأعلى لم يعرف الإجابة.
كيف نوجد قدوة صالحة؟
كيف تطالب أبناءك بأن يتحكموا في أعصابهم، وأنت عاجز عن ذلك حتى وأنت تناقش معهم هذا الموضوع فقد تكون مغضباً.
الرسائل غير المباشرة أمضى وأقوى من التوجيه المباشر، مع الحاجة إليهما، فمثلاً: حسن علاقتك بزوجتك يؤدي دوراً عظيماً في حياة أبنائك، وهدوؤك وحسن تصرفك والقدرة على الاستماع أولى من عشر محاضرات، وتنظيمك لوقتك، ودقة مواعيدك ومبادرتك إلى ما يخصك دون أن تعتمد على الأوامر أقوى من دروس وجدال، إذا أمرت ابنك بعمل فلم ينجزه أن تقوم بإنجازه دون أن تنبذه بكلمة واحدة أشد تأثيراً من الضرب المبرح... وهلم جرا.. والحالات الاستثنائية لها علاجها:
- قلَّل ما استطعت من قولك لأبنائك: كنت وكنت وكان أبي، فالإكثار من ذلك سيتحول إلى سخرية بينهم، دع أعمالك الحاضرة تتحدث عن شخصيتك، فأبناؤك لا يهمهم كثيراً كيف كنت، وكيف كان أبوك، وقد لا يصدقونك، ولكن يهمهم كيف أنت الآن دون دعوى وضجيج.
- من أنجح وسائل التربية المثل والقدوة، والمحبة والإعجاب أقصر وسيلة للاقتداء والتشبه، وقدوتنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فامتلاء قلوبنا بمحبته وقلوب أبنائنا بمحبته يدفعها إلى التأسي به والصدور عن هديه وأخلاقه، ثم مما يعين على ذلك محبة صحابته، واختيارك أحد كبار الصحابة مثلاً لابنك، مما ترى أن هناك توافقاً بين صفات ابنك وصفاته، فيقرأ سيرته، ويتشبع بأخلاقه، ويجعله مثلا له بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك مؤثر في تربيته وعلو همته وتقويم سلوكه، وقل مثل ذلك في كبار قادة سلف الأمة وعلمائها، وقد يكون الاقتداء نسبياً في صفة أو خلق أو علم.
- مهما كان للقول من تأثير فإن الفعل أقوى تأثيراً وأمضى سلاحاً، وهناك من الأفعال ما يكون تأثيره سريعاً ومباشراً، وهناك ما يكون تأثيره متدرجاً وهو التأثير التراكمي، حيث إن مجموعة من الأفعال على مدى عدة أيام أو شهور أو أعوام يكون لها من التأثير ما لسواها، فالكرم مثلاً لا يكون بمرة أو مرتين، وإنما يعرف الكريم بكرمه إذا تكرر منه الفعل وأصبح سجية له وطبعاً، والصدق لا يوصف به من صدق يومين أو شهرين، بل يتوج به من لم يعرف بالكذب في يسر أو عسر << ومازال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا >>.
تريد من ابنك أن يكون منظماً ومرتباً، ودقيقاً في مواعيده، وحازماً في إنجاز أموره، وأنت تعيش الفوضى وتمارسها {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الصف].
كن قدوة في نفسك، مرتباً في عملك، يرى منك ابنك في تعاملك معه ما تطالبه به، و يجدك في تعاملك مع الآخرين أسوة ومثلاً، إذا كنت كذلك فسترى ما يسرك، وإلا فعلى نفسها جنت براقش.
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيـــم
مبارك غازي الديحاني
مجلة الفرقان